سورة الحج - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحج)


        


قلت: {فتصبح}: عطف على {أنزل}، والعطف بالفاء أغنى عن الضمير، وإيثار صيغة الاستقبال؛ للإشعار بتجدد أثر الإنزال، وهو الاخضرار واستمراره، أو لاستحضار صورة الاخضرار، وإنما لم ينصب جوابًا للاستفهام؛ لأنه لو نصب لبطل الغرض؛ لأن معناه في الرفع إثبات الاخضرار، فينقلب في النصب إلى نفيه، كما تقول لصاحبك: ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر، إن نصبته نفيت شكره، وشكوت من تفريطه، وإن رفعته أثبت شكره.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ألم تر} يا محمد، أو يا من يسمع، {أن الله أنزل من السماء ماءً}؛ مطرًا {فتصبحُ الأرض مخضرةً} بالنبات، بعدما كانت مسودة يابسةً، {إِنَّ اللهَ لطيفٌ} بعباده، أو في ذاته لا يدرك، {خبيرٌ} بمصالح خلقه ومنافعهم، أو اللطيف المختص بدقائق التدبير، الخبير بكل جليل وحقير، قليل وكثير. {له ما في السماوات وما في الأرض}؛ مُلكًا ومِلْكًا، قد أحاط بهم؛ قدرةً وعلمًا، {وإِنَّ الله لهو الغني} عن كل شيء، المفتقر إليه كل شيء، {الحميد}: المحمود بنعمته، قبل ثناء من في السماوات والأرض عليه، أو المستحق للحمد، أعطى أو لم يعط.
ثم ذكر موجب الحمد من عباده، فقال: {ألم ترَ أن الله سخَّر لكم ما في الأرض} من الأنعام؛ لتأكلوا منها، ومن البهائم؛ لتركبوها في البر، {والفُلكَ تجري في البحر بأمره}: بقدرته وإذنه، أي: وسخر لكم المراكب حال كونها جارية في البحر بإذنه، {ويُمسكُ السماء أن تقعَ على الأرض} أي: يحفظها من السقوط، بأن خلقها على هيئة متداعية إلى الاستمساك، {إِلا بإِذنه}: إلا بمشيئته، وذلك يوم القيامة، وفيه رد لاستمساكها بذاتها؛ فإنها مساوية لسائر الأجسام في الجسمية، فتكون قابلة للميل الهابط قبُولَ غيرها. {إِنَّ الله بالناس لرؤوفٌ رحيمٌ}؛ حيث هيأ لهم هذه الأسباب لقيام معاشهم، وفتح لهم أبواب المنافع، ودفع عنهم أنواع المضار، فأوضح لهم مناهج الاستدلال بالآيات التكوينية والتنزيلية، فله الحمد وله الشكر.
الإشارة: ألم تر أن الله أنزل من سماء المعاني ماء علم الغيوب، وهو علم أسرار الذات وأنوار الصفات، أعني: التوحيد الخاص، فإذا نزل على أرض النفوس، اهتزت وربت، واخضرت بالعلوم والمعارف، إن الله لطيف خبير، لطيف؛ لسريان معانيه اللطيفة في كل شيء، خبير ببواطن كل شيء، فمن كوشف بلطيف معانيه وإحاطة علمه في كل شيء، وبكل شيء، حيي قلبه بمعرفة الله، واخضرت أرض نفسه بأنواع العلوم والمعارف. ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض، يكون عند أمركم ونهيكم، وفلك الفكرة تجري في بحر التوحيد بأمره، ويُمسك سماء الأرواح أن تقع على أرض الحظوظ إلا بإذنه، بعد الرسوخ في معرفته، والتمكين من الفهم عنه، إن الله بالناس لرؤوف رحيم؛ حيث فتح لهم باب العلوم، وهيأ لهم أسباب الفهوم، وهي الرياضة والتأديب.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {وهو الذي أحياكم} بعد أن كنتم جمادًا، عناصر ونطفًا في الأصلاب والأرحام، حسبما فُصل في صدر السورة، {ثم يُميتُكم} عند مجيء آجالكم، {ثم يُحييكم} عند البعث، لإيصال جزائكم، {إِنَّ الإِنسان لكفور}: لَجَحُود لِمَا أفاض عليه من ضُروب النعم، ودفع عنه من صنوف النقم، أو لا يعرف نعمة الإيجاد المُظهرة للوجود، ولا نعمة الإمداد الممدة بعد الوجود، ولا نعمة الإفناء المقربة إلى الموعود، ولا نعمة الإحياء الموصلة إلى المقصود، وهو التنعم في جوار الملك الودود، فله الحمد دائمًا وله الشكر.
الإشارة: وهو الذي أحياكم باليقظة بعد الغفلة، وبالعلم بعد الجهل، ثم يميتكم عن حظوظ نفوسكم وهواها، ثم يُحييكم بالمعرفة به، حياةٌ لا موت بعدها، فمن لم يعرف هذا فهو كنود.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {لكل أمةْ} من الأمم الخالية والباقية {جعلنا} أي: وضعنا، وعَيَّنا {منسَكًا}: شريعة خاصة يتمسكون بها، أي: عيّنا كل شريعة لأمة معينة من الأمم، بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة لها إلى شريعة أخرى، لا استقلالاً ولا اشتراكًا، فكل جيل لهم شرع مخصوص، {هم ناسكوه}: عاملون به، فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى- عليهما السلام- منسكهم التوراة، هم عاملون به لا غيرهم. والتي كانت من مبعث عيسى عليه السلام إلى مبعث النبي صلى الله عليه وسلم منسكهم الإنجيل، هم ناسكوه وعاملون به. وأما الأمة الموجودة عند مبعث النبي- عليه الصلاة والسلام- ومن بعدهم إلى يوم القيامة؛ فهم أمة واحدة، منسكهم القرآن، ليس إلا.
والفاء في قوله: {فلا ينازعنك في الأمر} لترتيب ما بعدها على ما قبلها؛ فإن تعيين كل أمة بشرع مخصوص، يجب اتباعه، يُوجب اتباع هؤلاء الموجودين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم منازعتهم له في أمر الدين، أي: فلا يجادلنك في أمر الدين، بل يجب عليهم الاستسلام والانقياد لكل أمر ونهي. أو: فلا تلتفت إلى قولهم، ولا تمكنهم من أن ينازعوك في الأمر، أي: أمر الدين أو أمر الذبائح. قيل: نزلت حين قال المشركون للمسلمين: ما لكم تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتله الله؟ يعني: الميتة، فأمر الله بالغيبة عنهم، وعدم الالتفات إلى قولهم. {وادعُ إلى ربك} أي: دم على الدعاء إلى الله، والتمسك بدينه القويم؛ {إِنك لعلى هُدىً مستقيم}: طريق قويم موصل إلى الحق.
{وإن جادلوك} بعد ظهور الحق؛ مِراء وتعنتًا، كما يفعله السفهاء، بعد اجتهادك ألاَّ يكون بينك وبينهم تَنازع وجدال، {فقل اللهُ أعلمُ بما تعملون} أي: فلا تجادلهم، وادفعهم بهذا القول، والمعنى: إن الله عالم بأعمالكم وما تستحقون عليها من الجزاء، فهو يُجازيكم به. وهذا وعيد وإنذار، ولكن برفق ولين، يُجيب به العاقلُ كلَّ متعنت سفيه. قال تعالى: {اللهُ يحكمُ بينكم يومَ القيامةِ فيما كنتم فيه تختلفون} من أمر الدين، وهو خطاب من الله تعالى للمؤمنين والكافرين، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان يلقى منهم.
{ألم تعلم أن الله يعلمُ ما في السماء والأرض}، الاستفهام للتقرير، أي: قد علمت أن الله يعلم كل ما يحدث في السماء والأرض، ولا يخفى عليه شيء من الأشياء، ومن جملتها: ما تقوله الكفرة وما يعملونه، {إِنَّ ذلك في كتاب}؛ في اللوح المحفوظ، {إِنَّ ذلك على الله يسير} أي: علمه بجميع ذلك عليه يسير، فلا يخفى عليه معلوم، ولا يعسُر عليه مقدور. {ويعبدونَ من دون الله} أي: متجاوزين إياه، مع ظهور دلائل عظمته وقدرته وتوحيده، {ما لم يُنزل به سلطانًا}: حجة وبرهانًا، {وما ليس لهم به علمٌ} أي: وما ليس لهم بجواز عبادته علم؛ من ضرورة أو استدلال، أي: لم يتمسكوا في عبادتهم لها ببرهان سماوي من جهة الوحي، ولا حملهم عليها دليل عقلي، بل لمجرد التقليد الرديء، {وما للظالمين من نصير} أي: وما للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم العظيم من أحد ينصرهم، أو يصوب مذهبَهم، أو يدفع العذاب عنهم، حين يعتريهم بسبب ظلمهم.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: كما اختلفت الشرائع باختلاف الملل، اختلفت التربية باختلاف الأشخاص والأعصار، وقد تقدم عند قوله {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48]. وجملتها ترجع إلى الهمة والحال، وبهما كانت التربية في الصدر الأول، فكانت الملاقاة والصحبة تكفي، ويحصل التهذيب والتصفية وكمال المعرفة. وذلك في زمان الصحابة والتابعين إلى القرن الثالث؛ لقربهم من النور النبوي. فلما بَعُد الأمر، وأظلمت القلوب، أحدثوا تربية الاصطلاح، وهو التزيي بزي مخصوص، كالمرقعة وحمل السبحة في العنق، والركوة، وغير ذلك من مسائل التجريد، وترتيب أمور تموت بها النفوس وتعالج بها القلوب، واستعمال أوراد مخصوصة، فكانت التربية حينئذ بالهمة والحال والاصطلاح. وقد تحصل التربية لمن له الهمة والحال بغير اصطلاح، إذا رآه ينجع فيه ذلك، فبقي الأمر كذلك إلى القرن التاسع، فتصدى للتربية بالاصطلاح قوم مُدَّعُون، لا همة لهم ولا حال، فقال الحضرمي حسمًا لهذه الدعوى: قد انقطعت التربية بالاصطلاح، وما بقي إلا الهمة والحال، فعليكم بالكتاب والسنة، أي: بظاهر الكتاب والسنة من غير زيادة ولا نقصان، يعني طريق الأحوال والاصطلاح. ومراده بذلك: قطع التربية بالاصطلاح من غير همة ولا حال. وأما من له الهمة والحال فلا يقصد الحضرمي قطع تربيته بالاصطلاح. والحاصل: أن الحضرمي ما حكم إلا على وقته؛ لِمَا رأى من الفساد الذي دخل في التربية. وق وُجد بعده رجال مُربون بالاصطلاح مع الهمة والحال. والمراد بالهمة: العلم بالله على نعت الشهود والعيان، وبالحال: إنهاض القلوب عند رؤيته لذكر الله؛ لقوله- عليه الصلاة والسلام-: «خَيْرُكُمْ مَنْ إِذا رُؤوا ذُكر اللهُ» ولا بد من إذن خاص من الشيخ، أو من يقوم مقامه، وإلا فلا تنجح تربيته، ولا ينهض حاله. والله تعالى أعلم.
فإن تأهلتَ للتربية بإذن خاص، فلا ينازعنك في الأمر، أي: لا تلفت إلى من ينازعك ويحتج عليك بانقطاع التربية؛ تعنتًا وعنادًا. وادع إلى ربك، إنك لعلى هدى مستقيم. قال القشيري: قوله: {وإن جادلوك...} إلخ، أي: كِلْهُم إلينا، عندما راموا أمر الجدال، ولا تتكل على ما تختاره من الاحتيال، واحذر جنوحَ قلبك إلى الاستغاثة بالأمثال والأشكال؛ فإنهم قوالبُ خاويةٌ. وأشباحٌ من رؤية المعاني خالية. اهـ. ويوم القيامة يظهر المحق من المبطل، ويقال في شأن من يعبد هواه: {ويعبدون من دون الله...} الآية.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10